أُمِّي
من ديوان سمراء قلبي
للشاعر الكبير الدكتور/ عزت سراج
هَلْ قَدْ سَمِعْتَ عَلَى الْمَدَى خَفَقَانَهَا ؟
أَمْ هَلْ شَمَمْتَ عَلَى الرُّبَى رَيْحَانَهَا ؟
أَمْ هَلْ وَقَفْتَ هُنَيْهَةً فِي بُعْدِهَا
مُتَحَسِّرًا مُتَذَكِّرًا بُسْتَانَهَا ؟
دَافَعْتَ نَفْسَكَ ، فَانْدَفَعْتَ إِلَى اللَّظَى
عِنْدَ الْغُرُوبِ مُرَاوِغًا أَشْجَانَهَا
بَاغَتَّ شَوْقَ حَبِيبَةٍ لِحَبِيبِهَا
فَسَمِعْتَ ـ فِي أَعْمَاقِهَا ـ رَجَفَانَهَا
غَلَبَتْكَ عَيْنُكَ شَاكِيَاً مُتَوَجِّعًا
فَبَكَيْتَ غَيْرَ مُدَافِعٍ هَتَّانَهَا
قَدْ أَعْلَنَتْ مَكْنُونَهَا بِدُمُوعِهَا
عِنْدَ الْمَسَاءِ وَلَمْ تُرِدْ إِعْلانَهَا
فَهَتَفْتَ تَفْتَحُ لِلْحَنِينِ صَبَابَةً
وَتَبُوحُ غَيْرَ مُغَالِبٍ كِتْمَانَهَا
أُمِّي وَلَوْ كَانَ الزَّمَانُ مُطَاوِعًا
لاخْتَرْتُ ـ غَيْرَ مُفَكِّرٍ ـ أَزْمَانَهَا
لَوْ خَيَّرُونِي بَيْنَ جَنَّاتِ الدُّنَا
لاخْتَرْتُ ـ دُونَ تَرَدُّدٍ ـ نِيرَانَهَا
بَسَمَاتُهَا مَلأَتْ حَيَاتِيَ فَرْحَةً
وَأَزَاحَ صَادِقُ وُدِّهَا أَحْزَانَهَا
لَمَّا أَرَدْتُ الشِّعْرَ فِي أَعْيَادِهَا
بَعْدَ النِّفَارِ مُصَوِّرًا إِيمَانَهَا
أَرْجُو الْقَوَافِيَ أَنْ تَبُوحَ بِسِرِّهَا
لأُقِيمَ ـ بَعْدَ جُنُوحِهَا ـ مِيزَانَهَا
وَقَصَدْتُ غَامِضَةَ الْمَعَانِيَ نَاظِمًا
أَشْتَاتَهَا مُتَرَجِّيًا تِبْيَانَهَا
جَرَتِ الْقَصِيدَةُ تَسْتَعِيدُ حُضُورَهَا
بَعْدَ الْغِيَابِ ، وَذَلَّلَتْ أَوْزَانَهَا
تَتَدَافَعُ الأَبْيَاتُ تَسْبِقُ خَاطِرِي
مُنْقَادَةً قَدْ ثَقَّبَتْ مُرْجَانَهَا
فَغَزَلْتُ نَاصِعَ بُرْدَةٍ فِي قُرْبِهَا
وَكَسَوْتُ ـ بَعْدَ بِعَادِهَا ـ عُرْيَانَهَا
وَجَمَعْتُ مُفْتَرِقَ الْكَلامِ لِصَدْرِهَا
وَنَضَدْتُ ـ بَيْنَ ضُلُوعِهَا ـ عِقْيَانَهَا
وَخَفَضْتُ ـ تَحْتَ كِعَابِهَا ـ مَا تَشْتَهِي
وَرَفَعْتُ ـ فَوْقَ جَبِينِهَا ـ تِيجَانَهَا
أُمِّي وَلَوْ عَزَّ الزَّمَانُ بِزَوْرَةٍ
فَهِيَ الْمُنَى أَرْجُو الْحَيَاةَ أَمَانَهَا
وَإِذَا تَعُودُ بِيَ الْحَيَاةُ عَزِيزَةً
بَعْدَ الْهَوَانِ لَمَا أَضَعْتُ زَمَانَهَا
تِلْكَ السُّنُونَ قَضَيْتُهَا مُتَنَعِّمًا
مُتَأَمِّلاً وَمُعَانِقًا أَحْضَانَهَا
لا أَبْعَدَ اللهُ الْخُطُوبَ مُزَلْزِلاً
قَلْبَ الْجَحُودِ ، وَلا افْتَدَى مَنْ خَانَهَا
فَالأُمُّ نَفْحَةُ خَالِقٍ رَيْحَانَةٌ
فِي طُهْرِهَا قَدْ عَطَّرَتْ أَبْدَانَهَا
لا تَبْتَغِي عِنْدَ الْمَسَرَّةِ مَطْمَعًا
وَتَبَرُّ ـ عِنْدَ شَدِيدَةٍ ـ أَوْطَانَهَا
حَمَلَتْكَ وَهْنًا فَوْقَ وَهْنٍ نُطْفَةً
أَتَكُونُ فَظًّا تَبْتَغِي هِجْرَانَهَا ؟
وَغَذَتْكَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فِي بَطْنِهَا
وَسَقَتْكَ ـ مِنْ أَثْدَائِهَا ـ تَحْنَانَهَا
لَمَّا رَأَتْكَ عَلَى فِرَاشِكَ بَاكِيًا
مَزَجَتْ ـ بِخَالِصِ حُبِّهَا ـ أَلْبَانَهَا
أَنَسِيتَ بَعْدَ فِرَاقِهَا وَعُقُوقِهَا
كَمْ أَرْضَعَتْكَ حَنِينَهَا وَحَنَانَهَا ؟
كَمْ هَدْهَدَتْكَ مَرِيضَةً مُرْتَاحَةً
وَلَشَدَّ مَا هَدَّ الْوَنَى بُنْيَانَهَا
سَهِرَتْ عَلَيْكَ مَسَاءَهَا مَسْرُورَةً
وَبِسُهْدِهَا قَدْ كَحَّلَتْ أَجْفَانَهَا
وَتَظَلُّ تَحْكِي كَيْ تَضُمَّكَ رَاضِيًا
لِتَنَامَ أَنْتَ مُرَدِّدًا أَلْحَانَهَا
قد ظَلَّلَتْكَ رُمُوشُهَا بِحِكَايَةٍ
لِتَبِيتَ أَنْتَ مُعَانِقًا أَفْنَانَهَا
مَنَحَتْكَ دِفْءَ ضُلُوعِهَا مُشْتَاقَةً
لِتَصِيرَ أَنْتَ ـ مُكَرَّمًا ـ سُلْطَانَهَا
لَكِنَّهَا فَقَدَتْكَ غَيْرَ مُعَوَّضٍ
عِنْدَ ارْتِحَالِكَ مُنْكِرًا إِحْسَانَهَا
لا يَنْتَهِي فِي الْجُودِ وَاسِعُ فَضْلِهَا
وَتَضِيقُ أَنْتَ مُهَدِّمًا أَرْكَانَهَا
أَوْصَاكَ رَبُّكَ رَحْمَةً بِهِمَا مَعًا
فَتَعَقُّهَا مُتَجَاهِلاً عِرْفَانَهَا ؟
كَمْ وَاصَلَتْكَ فُرُوعُهَا بِقُطُوفِهَا
فَقَطَعْتَ ـ بَعْدَ ظِلالِهَا ـ أَغْصَانَهَا
وَمَشَيْتَ وَحْدَكَ فِي الطَّرِيقِ مُغَاضِبًا
عِنْدَ افْتِرَاقِكَ تَبْتَغِي نِسْيَانَهَا
وَتُدِيرُ ظَهْرَكَ نَحْوَهَا مُتَكَبِّرًا
وَنَسِيتَ ـ بَعْدَ حُنُوِّهَا ـ عُنْوَانَهَا
فَلَبِئْسَ مَا صَنَعَتْ يَدَاكَ جَرِيرَةً
أَنْكَرْتَ ـ بَعْدَ جَمِيلِهَا ـ حِرْمَانَهَا
وَتَقُولُ أُمُّكَ يَا بُنَيَّ تَرَفُّقًا
وَتُعِيرُ خَطْوَكَ ـ رَحْمَةً ـ آَذَانَهَا
تَدْعُو لَكَ اللهَ السَّلامَةَ بَعْدَمَا
فَارَقْتَهَا مُتَجَنِّبًا وِلْدَانَهَا
فَاخْفِضْ لَهَا مِنْكَ الْجَنَاحَ مَذَلَّةً
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَطْوِي الرَّدَى أَرْدَانَهَا
وَتَظَلُّ تَصْرُخُُ بَاكِيًا أَيَّامَهَا
خَلْفَ الْجُمُوعِ مُبَلِّلاً أَكْفَانَهَا
وَتَبِيتُ وَحْدَكَ شَاكِيًا فِي حُجْرَةٍ
بَعْدَ الْوَدَاعِ مُقَبِّلاً جُدْرَانَهَا
هَذَا الْجِدَارُ يَطُلُّ نَحْوَكَ سَاخِرًا
مُتَذَكِّرًا ـ بَعْدَ الأَصِيلِ ـ هَوَانَهَا
وَتَطَلُّ نَافِذَةٌ تَبُثُّكَ حُزْنَهَا
فَتَبُوحُ ثَمَّ مُعَانِقًا عِيدَانَهَا
تَتَزَاحَمُ الأَطْيَافُ حَوْلَكَ نَادِمًا
فَتَعَضُّ سِنَّكَ رَاجِيًا سُلْوَانَهَا
وَتَقُولُ بَعْدَ فِرَاقِهَا يَا لَيْتَنِي
قَدْ مِتُّ قَبْلَ إِذٍ وَكُنْتُ مَكَانَهَا
ــــــــــــــــ
من ديوان سمراء قلبي
للشاعر الكبير الدكتور/ عزت سراج