العلامة الجليل/ دكتور محمد راتب النابلسي Select ratingضعيفمقبولجيدجيد جداًممتاز
ضعيفمقبولجيدجيد جداًممتاز Aug 19 2010
الشمائل المحمدية هي لون جديد من ألوان السيرة النبوية
لأن كلَ واحد منَّا مسَّ قلبَه نفحةٌ من عطر محبة رسول الله، فما أحوجنا جميعا لأن نتعرف عليه، ونتقرب من حضرته، ونتعرض لشمائله الكريمة.. لنشرب معا من هذا البحر الأخلاقي الذي كلما شربنا منه ازددنا ظمئا لأنواره وأسراره وطمعا في محبته صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. أيها الإخوة الكرام؛ دعونا نتدارس معاً نوعاً جديداً من ألوان السيرة النبويَّة؛ ألا وهي شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم.
|
******************************
<BLOCKQUOTE>
أقوال النبي عليه الصلاة والسلام وأفعاله وإقراره كلها تسمى سُنَّة؛ فيا ترى ما هو الحكم الشرعي لمعرفة سنة النبي في أقواله وأفعاله وإقراره وصفاته؟
</BLOCKQUOTE>
قبل أن ننتقل إلى شمائله واحدة واحدة لا بدَّ من مقدِّمةٍ دقيقةٍ حول وجوب دراسة سيرة النبي، ودراسة شمائله، وما الدليل على ذلك؟دراسة السيرة النبوية فرض على كل مسلمإخواننا الكرام؛ ما من حركةٍ يتحرَّكها الإنسان إلا ولها حكمٌ شرعي؛ إما أنها فرض، وإما أنها واجب، وإما أنها سُنَّة، وإما أنها مباحة، أو مكروهة كراهة تنزيهيَّة، أو كراهة تحريميَّة، وإما أنها حرام؛ فالمؤمن أيَّة حركةٍ يتحرَّكها ينبغي له أن يعرف حكم الشرع فيها، تُرى: قراءة سنة النبي وسيرته وحضور هذا المجلس، مباح أم واجب أم مستحب أم فرض؟ وما الحكم الشرعي في معرفة سُنَّةِ النبي؟
وإذا قلنا: سنة النبي؛ فيجب أن تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلَّم له أقوال وأفعال وإقرار؛ فإذا حصل شيء أمامه وبقي ساكتاً؛ فهذا صحيح؛ لأن النبي مشرِّع، وسكوت النبي دليل إقراره لما يجري.
إذن فأقوال النبي عليه الصلاة والسلام وأفعاله وإقراره كلها تسمى سُنَّة؛ فيا ترى ما هو الحكم الشرعي لمعرفة سنة النبي في أقواله وأفعاله وإقراره وصفاته؟ سأبيِّن لكم في هذا الدرس أن معرفة سُنة النبي صلى الله عليه وسلَّم بكل أنواعها من أقوالٍ وأفعالٍ وإقرارٍ وصفات هي فرض عين.
والآن، إذا قلنا: فرض؛ فما معنى الفرض؟
الفرض هو الذي يعاقَب تاركه، ويُثاب فاعله؛ والفرض نوعان:
فرض عين: يكون على كل مسلم أن يقوم به بنفسه.
فرض كفاية: فهو الذي إن قامت به جماعة من المسلمين سقط عن الباقين وإن تركه كل المسلمين أثموا جميعاً، فلو فرضنا أنّ المسلمين في بلد يفتقرون جميعاً إلى اختصاص معيَّن فإن تعلُّم هذا الاختصاص فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الكُل، فعلم المواريث فرض كفاية، لكن تلاوة القرآن تلاوةً صحيحة فرض عين، لقوله تعالى:
{ورتل القرآن ترتيلاً}.. (المزمل)
{يتلونه حق تلاوته}.. (البقرة)
فما الدليل على أن معرفة سنة النبي فرض؟
يقول الله سبحانه وتعالى:
{واعلموا أن فيكم رسول الله}.. (سورة الحجرات)
واعلموا أن هذا الذي يدعوكم إلى طاعة الله هو رسول الله، فهل يا ترى إذا قال الإنسان: هذا رسول الله؛ فهل انتهى العلم؟ وهذا ليس علماً، هذه إشارة، وهذا تقليد، وثمة فرقٌ كبير بين التقليد وبين العلم، والله عزَّ وجل قال:
{فاعلم أنه لا إله إلا الله}.. (سورة محمد)
فهل يكفي أن تردِّدها؟ لا، لا يكفي؛ فهل يكفي أن تشهد أنه لا إله إلا الله، ولا تعلم فحواها ومضمونها؟ لا يكفي.. ينبغي أن يكون علمك يقينياً مع الدليل الإجمالي والتفصيلي، وبإمكانك أن ترُدَّ الشبهات؛ فما معنى العلم؟ العالِم يعرف الحقيقة، ويعرف البرهان عليها، ويستطيع أن يردَّ الشبهات التي تُطرح فيها؛ فهذا العالم.
وقياساً على
{فاعلم أنه لا إله إلا الله} تكون
{واعلموا أن فيكم رسول الله}
<BLOCKQUOTE>
العلم يقتضي البحث والدرس، والتأمُّل، والأدلَّة، والبراهين، والقدرة على ردّ الشبهات، وهناك آلاف الشبهات يطرحها أعداء الإسلام عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هذه الشبهات مثلاً أنه مزواج يحب النساء؛ فهل عندك القدرة على أن تردّ هذه الشبهة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم؟</BLOCKQUOTE>
فالعلم يقتضي البحث والدرس، والتأمُّل، والأدلَّة، والبراهين، والقدرة على ردّ الشبهات، وهناك آلاف الشبهات يطرحها أعداء الإسلام عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هذه الشبهات مثلاً أنه مزواج يحب النساء؛ فهل عندك القدرة على أن تردّ هذه الشبهة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم؟
لقد تزوَّج السيدة خديجة، وهي أكبر منه بخمسة عشرَ عاماً، وعاش معها ربع قرن، ولم يفكِّر في امرأةٍ أخرى؛ فلو أنه كان مزواجاً -كما يقولون- أو يحبّ النساء لاختار من أجمل فتيات قريش، وهو من أرومتها عليه الصلاة والسلام، إذاً قوله تعالى
{واعلموا أن فيكم رسول الله} هذا دليل أن معرفة رسول الله فرض عين على كل مسلم؛ فيجب أن يحصل لك العلم، العلم بلا شك ولا وهم ولا ظن ولا تقليد فيه؛ حيث تكون "كل خليَّةٍ في جسمك تؤمن أن هذا الإنسان رسول الله". ( رواه مسلم )
الآن الدليل الآخر على أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين قوله تعالى:
{أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون}.. (سورة المؤمنون)
.فإذا كان الدليل الأول قائم على الحض بصيغة {واعلموا} وهي فعل أمر، وكل فعل أمرٍ يقتضي الوجوب، فإن الدليل الثاني
{أم لم يعرفوا رسولهم} تشمل حضاً بإنكار الجهل بالنبي الكريم.
أما الدليل الثالث فقوله عزَّ وجل:
{فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير}.. (سورة التغابن).
فالنور الذي أنزلنا هو القرآن الكريم، إذن الله عزَّ وجل يأمرنا أن نؤمن به، وأن نؤمن برسوله، وأن نؤمن بكتابه في عقيدة واحدة وشهادة واحدة. وإذا كان العقل البشري يستطيع بإماكناته أن يوصلك إلى الله وإلى كتابه، ومن ثم إلى رسوله وصدق رسالته وقداسة تشريعه؛ فإنه تعالى قد جعل الإعجاز العلمي والبياني والإخباري والتشريعي والتربوي دليلاً على صدق رسالة النبي الكريم كذلك:
هناك إعجاز إخباري ففي القرآن غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقبل، وإعجاز علمي، وسمَّاه العلماء "السبق العلمي"، أي إن القرآن أشار إلى حقائق ما كان يعرفها أحدٌ إلى الآن، هذه الحقائق يستحيل على البشر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يصلوا إليها؛ فأنت تؤمن بالقرآن من خلال الإعجاز، وتؤمن بالنبي من خلال القرآن؛ فالذي جاء بهذا القرآن المُعجز هو رسول الله، إذن عندما قال ربنا {فآمنوا} فأنتم مؤهَّلون بعقولكم أن تؤمنوا بالله وكتابه ورسوله، وهذا دليل ثالث.
ودليل الرابع:
{وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك}.. (سورة هود)
فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما يقصُّ الله عليه من أنباء الرسل، جميع الرسل دونه، وهو في قمَّتهم، يثبتُ قلبه بأنبائهم؛ فكيف بقلوبنا إذا تُلِيَت عليها أنباء النبي عليه الصلاة والسلام؟
الدليل الخامس:
{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة}.. (سورة سبأ).
فالله عزَّ وجل يعظنا أن نجتمع، ونتدارس فحوى دعوة النبي.
والآن بعد أن عرفنا فرضية معرفة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته فهي من كمال الدين، ومن كماله أن تحب الله ورسوله أكثر من آبائك وأبنائك وزوجتك وعشيرتك وتجارتك ومسكنك وأموالك كلها؛ لكن.. كيف تحبّ النبي أكثر من هذه كلها؟
لو سألنا علماء النفس هذا السؤال: من الذي يحبه الإنسان؟
لقالوا: الإنسان يحبّ الكمال والجمال والنوال.
أي أن الإنسان الأخلاقي محبوب؛ فالعفو محبوب، والكريم محبوب، والعدل محبوب، والإنسان يحب مكارم الأخلاق، وإنْ لم يكن له علاقةٌ مباشرة مع هذا الإنسان الكامل؛ فلو سمعت عن رجلٍ في أعلى درجات القوة، واستفزَّه إنسان، وعفا عنه؛ فلسوف تُعجب بهذا الخُلُق؟ فالإنسان يحبّ الكمال، ويحب الجمال، ويجب النوال، ولو أنّ إنسانًا دميمًا أعطاك ثمن بيت، وقال لك: اسكن في هذا البيت، يمكن ألا ترى أجمل منه؛ بل تحبه حباً لا حدود له؛ فما دام الإنسان يحب الكمال، ويحب الجمال، ويحب النوال؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كمالٌ على جمال على نوال.
ولأن الحب قائم على المعرفة؛ فمعرفة سيرة النبي وشمائله وصفاته موصّلة لهذا الحب، وهذا الحب هو حقيقة الإيمان.. فاللهم عرّفنا عليه وقربنا إليه.